انتقل الملك إلى داود بعد مقتل طالوت وبنيه، وجمع الله لداود النبوة مع الملك، فأقبل الناس على داود يعلنون الطاعة، ولما اجتمع بنو إسرائيل على داود أنزل الله عليه الزبور، كتابًا فيه تجديد للشريعة التي أتى بها موسى عليه السلام، وعلَّمه الله صنعة الدروع من الحديد، وألانه له، إما بتشكيله كما يريد معجزة له، وإما باستخدام وسيلة لإلانته؛ كالنار التي تستخدم لهذا الغرض حتى اليوم.
وكان داود حسن الصوت، يتلو الزبور تلاوة رائعة، بصوت يخشع له من يسمعه، حتى إن الجبال والطير تسبِّح معه أثناء التلاوة انفعالًا وخشوعًا، ولذة عبادة وتسبيح؛ قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 17، 18]، وهنا وصفٌ دقيق لداود، من حيث حبه للعمل، ويده يد صناع، تعمل لكسب الرزق وحب الإنتاج بما يفيد، وإن أفضل رزق العبد من كسب يده؛ ففي الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خفف عن داود عليه السلام القُرْآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فيقرأ القُرْآن قبل أن تسرج دوابه، ولا يأكل إلا من عمل يده».
وفي سورة سبأ وردت هذه المعاني بأسلوب آخر اهتمامًا وتوجيهًا وبيانًا لما كان عليه داود عليه السلام: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10، 11]؛ فالله أعطى داود هذه الميزة منًّا منه وفضلًا؛ حيث أمر الجبال والطير أن تردد معه ما يتلوه من الزبور تهجدًا وتسبيحًا، وفي الآية حثٌّ لداود وتشجيع له بأن الله معه في طلبه الرزق من خلال عمل الدروع وإحكام صنعتها: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11]؛ أي: اجعَلِ الأمر في الصناعة محسوبًا في غاية الدقة وحسن الصناعة، فلا إفراط ولا تفريط، وهو ما نعرفه في صناعة اليوم المتقنة، بحيث توضع كل قطعة في مكانها الصحيح حسب غرضها والجهد الذي تتحمله، فيأتي كل شيء بشكل موزون، وهذا ما عنته الآية الكريمة: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11]؛ أي: اجعل القطعة الثقيلة القوية في المكان الذي يتعرض فيه المقاتل للإصابة الأكثر والأقوى والقطعة الأقل قوة في المكان الذي يقل فيه التعرض للإصابة، وهذا أصبح قاعدة لصانعي الدروع فيما بعد؛ فالرأس والعنق والصدر والعضدان أماكن تحتاج للحماية القوية بخلاف الظهر، فقلما يتعرض للإصابة، إلا إذا كان المقاتل فارًّا وموليًا الدبر، فلو وضعت القطع على الدرع في كل الأماكن بشكل متشابه وموحد لثقل الدرع كثيرًا، إن كانت من النوع الثقيل، ولضعف الدرع عن تأدية الحماية، إن كانت من النوع الخفيف، فالله منَّ عليه وعلمه هذه الصنعة مع إتقانها: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80].
وكان داودُ من العباد الزهاد رغم نعيم الملك: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18]، فكانت الجبال تسبح اللهَ معه؛ وذلك لحُسن صوته، وكان تسبيحه مساءً وصباحًا، {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 19]، وكانت الطيرُ تجتمع لهذا الصوت الحسن وتردد معه التسبيح، وذكر “الطبري” أن الله أمر الجبال والطير أن يسبِّحْن معه إذا سبح، ولم يعطِ الله – فيما يذكرون – أحدًا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور ترنو له الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها وإنها لمصيخة تسمع لصوته؛ “أي من شدة انجذابها للصوت تستسلم لمن يأخذ بأعناقها ولا تقاوم”.
وكان داود شديد الاجتهاد، دائب العبادة، كثير البكاء؛ ولذلك كان الصحابة إذا أرادوا الانقطاع للعبادة من صلاة وصوم أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون عبادتهم مشابهة لما انتهجه داود، فلا يزيدون عنه؛ لأنهم ربما لا يطيقون أن يفعلوا أكثر منه؛ ففي الحديث الذي أخرجه البخاري: أن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: “أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت الذي تقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت»؟، قلت: قد قلته، قال: «إنك لا تستطيع ذلك؛ فصُمْ وأفطر، وقم ونَم، وصم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر»، فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك يا رسول الله، قال: «فصم يومًا وأفطر يومين»، قال: قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فصم يومًا وأفطر يومًا، وذلك صيام داود، وهو أعدل الصيام»، قلت: إني أطيق أفضل منه يا رسول الله، فقال: «لا أفضل من ذلك» وأخرج البخاري عن عبدالله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه»، هذا في النفل، أما الفرض فكما فرضه الله من صلاة أو صيام.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص: 20] بتأييده بالمعجزات الظاهرة الباهرة والقوة التي يتمتع بها، والملك بما فيه من الجنود؛ ولهذا كان ملكه قويًّا مستقرًّا يخشاه الأعداء، {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]، ومِن تمام نعم الله عليه أنه ملِك نبي حكيم، وقوله في المسائل التي تعرض عليه هو القول الفصل الصائب، ورُوي أن داود عليه السلام كان قد جعل له ثلاثة أيام؛ يوم يقضي فيه بين الناس، ويوم يخلو فيه للعبادة، ويوم يخلو فيه لنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وقيل: له أربعة أيام: يوم لعبادته، ويوم لنسائه، ويوم يقضي فيه بين الناس، ويوم لبني إسرائيل، وهكذا كان دهره، ولما أوتي من العلم والحكمة كان يعرف الفضل لمن سبقه من الأنبياء والمرسلين، وكان يتمنى أن يمتحن بمثل ما امتحنوا به؛ لينال مثل أجورهم، ولكن الله تعالى قال – كما ذكر في القُرْآن الكريم -: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253].
ومع ذلك يروي أهل السير أن داود طلب من ربه أن يمتحن لترتفع درجته، ومن خلال إيراد هذه القصة الطريفة يتبين لنا مدى الامتحان الذي خضع له داود، قال داود: يا رب، ابتلني بمثل ما ابتليتهم به، وأعطني مثل ما أعطيتهم، قال: فأوحى الله إليه إنك مبتلى فاحترس، قال: فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان قد تمثل بصورة حمامة من ذهب حتى وقعت عند رجليه وهو قائم يصلي، قال: فمد يده ليأخذها فتنحت فتبعها، فتباعدت حتى وقعت في كوة، فذهب ليأخذها فطارت من الكوة، فنظر أين تقع فيتبع أثرها، فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خَلقًا، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به، قال: فزاده ذلك فيها رغبة، فسأل عنها فأخبر أن لها زوجًا، وأن زوجها بمسلحة كذا وكذا، فبعث إلى صاحب المسلحة يأمره أن يبعث أهريا – اسم زوجها وكان في الجيش – إلى عدو كذا وكذا، فبعثه ففتح له، وكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا، أشد منهم بأسًا، فبعثه، ففتح عليه أيضًا، فكتب إليه أن أبعثه إلى عدو كذا وكذا، فبعثه، فقتل في المرة الثالثة، قال: فتزوج داود امرأته، فلما دخل عليها لم تلبث عنده إلا يسيرًا حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين، فطلبا أن يدخلا عليه، فمنعهما الحرس أن يدخلا – فكان في يوم عبادته – فتسوروا عليه المحراب، قال: فما شعر وهو يصلي إلا وهما جالسان بين يديه، ففزع منهما، فقالا: لا تخف إنما نحن {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ} [ص: 22]، فكيف يشطط وهو النبي الذي أوتي الحكمة وفصل الخطاب وفي حكمه وقضائه العدل والإنصاف؟ فقال: قصا عليَّ قصتكما، قال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 23] فهو يريد أن يأخذ نعجتي فيكمل بها نعاجه مائة، فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي تسعًا وتسعين نعجة ولأخي هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه فأكمل بها نعاجي مائة، قال داود: وهو كاره؟! قال: إذًا لا ندعك وذاك، قال: ما أنت على ذلك بقادر، قال: فإن ذهبت تروم ذلك أو تريد ذلك ضربنا منك هذا وهذا – الأنف والجبهة – فقال: يا داود، أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأهريا – وذكر أن اسمه أوريا – إلا امرأة واحدة، فلم تزل به تعرضه للقتل حتى قتل وتزوجت امرأته، قال: فنظر فلم يرَ شيئًا، فعرف ما قد وقع فيه، وما ابتلي به، قال: فخر ساجدًا فبكى، قال: فمكث يبكي ساجدًا أربعين يومًا لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها، ثم يقع ساجدًا يبكي، ثم يدعو حتى نبت العشب من دموع عينيه، وكان يقول في دعائه: “رب، زلَّ داود زلة أبعد ما بين المشرق والمغرب، رب، إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثًا في الخلوف من بعده”، فأوحى الله إليه بعد أربعين يومًا: يا داود، ارفع رأسك فقد غفرت لك، فقال: يا رب، كيف أعلم أنك قد غفرت لي وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء – وهو يعلم أن لأهريا حقًّا شخصيًّا لا يسقط – إذا جاء أهريا يوم القيامة آخذًا رأسه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دمًا في قبل عرشك يقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟! قال: فأوحى الله إليه إذا كان ذلك دعوت أهريا فأستوهبك منه فيهبك لي فأثيبه بذلك الجنة، قال: يا رب، الآن علمت أنك قد غفرت لي، قال: فما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياءً من ربه حتى قبض”.
وصوَّر القُرْآنُ هذه الحادثة عن داود بأسلوب بديع مختصر: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 23 – 25]، هذه الرواية هي من أفضل ما روي في هذه القصة عن داود، وهي تنسجم مع مدلول الآيات، لكن ورد أيضًا كلام فيها أنها ضعيفة، وقال الألباني: والظاهر أنها من الإسرائيليات التي نقلها أهل الكتاب الذين لا يعتقدون العصمة للأنبياء، وبرَّرها علماء آخرون أنها ابتلاء لداود، ثم تاب فتاب الله عليه، وقال آخرون: ليس للقصة صحة، وإنما تعجل داود فأصدر حكمه على صاحب التسع وتسعين نعجة قبل أن يسأله منساقًا إلى كلامه الأول، وكان عليه أن يستمع من الخصمين، غير أن القصة تظهر سماعه من الخصمين، والله أعلم.
وبعد قَبول الله – جلت قدرته – توبة داود التي يستحقها لإخلاصه فيها وبذل العزم على ألا يعود، جاءه الأمر الفصل من ربه ليلتزم تعاليم الله ويبتعد عن هوى النفس؛ فإن هوى النفس يوقع في التهلكة: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
المصدر / موقع طريق الاسلام – الكاتب: د. محمد منير الجنباز .