متابعه على صبرى
مقال: للدكتور د أحمد البخاري
إن الله ما كان ليدع الرجل تحت أوقار الدهر وأثقال الحياة، حتى يخلق له من نظام نفسه، من يذود عنه هموم نفسه، ويحتمل دونه الكثير من شؤونه، ويضيء له ما بين شعاب العيش وظلم الخطوب، تلك هي المرأة قسيمة حياته، وعماد أمره، وعتاد بيته، ومهبط نجواه، وتلك هي آية الله ومنته ورحمته،حيث ينهض الرجال إلى الحياة بعزم وقوة يستمدان عقله ورأيه، وتستقبل المرأة الوجود بعواطف فياضة يتجلى بها قلبها الخفاق فتأسو بها ما جرحته من قلب الفضيلة. فمن أجل ذلك كان قول المرأة في قلب الرجل وأملك لنفسه من سواه. ولقد روًع النبي صلى الله عليه وسلم لرؤية الروح الأمين أول عهده به وملكه الفزع منه فلم يجد – وهو صفي الله وصفوته من خلقه – من يواسي روعه ويشد قلبه إلا زوجه خديجة إذ تقول له: كلا والله لا يخزيك أبدا إنك تحمل الكل، وتكسب المعدوم. وتعين على نوائب الدهر، ذلك قول المرأة التي آزرت نبي الله، وواسته بمالها وقلبها، وفرًجت عنه مواطن محدقة مطبقة واحتملت دونه خطوبا جمة ، وكان قولها أنفذ في نشر دين الله من ألف سيف يسلٌ في سبيل الله، ذلك وحي من الله وإلهامه على لسان المرأة فنزل بردا على قلب الرجل. أفبعد هذاالقول من ذلك القلب غاية لمستمع أو سبيل لمستزيد؟. ألا إن خشية الله ودينه – وهما سبيل الكمال – لا يجدان مجالا أهدى، ولا موطنا أخصب من قلبالمرأة، لأن حاجة الدين إلى قلب صاف، وعواطف غالية أشد من حاجته إلى قلب ذكي، ورأي ألمعي إلى كل ذلك تنتقل المرأة إلى طور آخر تبلغه، فتبلغ به غاية ما أعدت له من كمال النفس وشرف العاطفة. ذلك طور الأمومة؛ فهناك تنزل المرأة عن حقها من الوجود لمن ُفصل عن لحمها ودمها تسهر لينام، وتظمئ ليروى، وتحتمل الألم الشديد – راضية مغتبطة – لتذيقه طعم الفرحة، وتنشيه نسيم النعيم.
لقد لبثت المرأة العربية تتعثر حتى استبان وضح الإسلام فأقالتها يد الله وها أنذا أبسط القول فيما رفع الإسلام عنها من غواشي الظلم في عامة أحوالها، ومختلف أطوارها من العبء من كان يرى البنت حملا فادحا يُضعف دونه احتماله، وتتخاذل لفرط ما يشفق من وصمة الذل، ووسم العار، وإذا وهنت نفسها، أو ذهب السبي بها، فكان بين أن يستبقيها على كره لها، ومضض منها، أوترقب لموتها، أو يفزع إلى الُحُفر فيقذفها في جوفها، ويهيل التراب على عظامها، ونضارة وجهها؛ فما أشد ما عاب الله أمر ذلك عليهم ونقمه منهم، ودل ذلك على سفه رأيهم وسوء صنيعهم. وقد وبخهم في مواطن كثيرة من كتابه الكريم. فقال جل ذكره: “وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون”. فكافحت المرأة بعد هذا كله وشقت في العصور القديمة والحديثة وخاصة في المجتمعات الإسلامية طريقا من نور في جميع المجالات، حيث كانت ملكة وقاضية وشاعرة وفنانة وأديبة وفقيهة ومحاربة وراوية للأحاديث النبوية الشريفة ؛ وإلى حد الآن ما زالت تكد وتكدح وتساهم بكل طاقاتها في رعاية بيتها وأفراد أسرتها، فهي الأم التي تقع على عاتقها مسؤولية تربية الأجيال القادمة، وهي الزوجة التي تدير البيت وتوجه اقتصادياته، وهي البنت أو الأخت أو الزوجة، وهذا يجعل الدور الذي تقوم به المرأة في بناء المجتمع دوراً لا يمكن إغفاله أو التقليل من خطورته ؛ ولكن قدرتها على القيام بهذا الدور تتوقف على نوعية نظرة المجتمع إليها والاعتراف بقيمتها ودورها في المجتمع، وتمتيعها بحقوقها لاسيما ما نالته من تثقيف وتأهيل وعلم ومعرفة لتنمية شخصيتها وتوسيع مداركها، الأمر الذي مكنها من القيام بمسؤولياتها تجاه أسرتها، وعلى دخول ميدان العمل والمشاركة في مجال الخدمة العامة، فالإسلام لم يشرع للمرأة أن تكون رهينة البيت، أو سجينته. بل هي ربتُه، والقائمة بأمره، والمسؤولة عنه يعاونها الرجل فيه، وتعاونه هي فيما سواه. أما حريتها، وحرمة رأيها، فلهما في الإسلام مظهران لا تطمع المرأة إلى أعز وأسمى منهما: هما حرّية الزواج، وحرية المجالس والمحافل تغشاها، وتظهر رأيها فيها. أما أمر الزواج فذلك شأنها وحقها. وليس لأحد أن يغصبها فيه رأيها أو يعدُو إذنها وحريتها فيه أبعد مدى، وأتم شأنا من الرجل فهو إذا عقد عليها، ثم لم يرضاها، فتركها قبل أن يبني بها، نزل عن نصف مهرها لها، وإن تركها بعد ذلك فلها المهر كاملا. وليس له أن يقول هي دوني نسبا أو منزلة، فكل النساء أكفاء للرجل، وليس كل الرجال أكفاء للمرأة. وكي لا أطنب في هذا الإتجاه أود تخصيص الحديث عن المرأة المغربية بداية من معرفة حالتها الإجتماعية .
المكانة الاجتماعية للمرأة العربية :
إن المرأة العربية المسلمة هي منبت فتيان العرب ومعْقدُ فخرهم، ومثار حميًتهم، ومُستق أدبهم، وملاذهم إن جدَّ بهم الدهر، ومفزعهم إن أشكل عليهم الأمر، ومُعولهم عن فدح الخطب، وعزَ المعين. تلك هي الأم العربية موطن ثقة الأب وفخر الابن، وعز العشيرة ، وسأذكر بعض النماذج من النساء العربيات اللائي نعتز بذكرهن على غرار أخواتهن من الصحابيات .
فهذه أم سفيان الثوري: كانت امرأة صالحة فقيهة عابدة، تفهم معاني الحياة وأسباب النجاح، تقدر العلم والعلماء تربى على يديها أحد كبار التابعين سفيان الثوري، وهذه إحدى وصاياها لولدها وهي تعدُه لمهمة العلم والأخذ بملكاته، حيث قالت له: يا بني أطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي وقالت له: يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى من نفسك زيادة في مشيك وحلمك ووقارك، فإن لم يزدك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك. وكذلك بنت سعيد بن المسيب: إنها بنت سيد التابعين سعيد بن المسيب، كانت امرأة مؤمنة صادقة عالمة تحضر مجالس الذكر والعلم، نهلت كثيرا من علم أبيها ذاع خبرها وشاع صيتها وزوجها أبوها من تلميذه عبد الله بن أبي وداعة، ولما سئل عن سبب تزويج ابنته من عبد الله قال: أما إني علم الله ما زوجت ابنتي رجلا أعرفه غنيا أو فقيرا، بل رجلا أعرفه بطلا من أبطال الحياة يملك أسلحته من الدين والفضيلة، وقد أيقنت حين زوجتها منه أنها ستعرف بفضيلة نفسها، فيتجانس طبعه بطبعها، وقد علمت وعلم الناس أن ليس في مال الدنيا ما يشتري هذه المجانسة.
لقد حرصت التابعيات على إصلاح نفوس أولادهن ونفوس أزواجهن وكذلك الحرص على تزويدهم بمكارم الأخلاق وتوجيههم إلى العلم والتعلم والتفقه في الدين·
هكذا كانت المرأة العربية المسلمة تتمتع بالأدب العالي والخلق الرفيع وتجمع بين فقه الدين وفقه النفس، حيث كانت مدرسة قائمة بذاتها تخرج على يديها كبار أئمة المسلمين من التابعين وأتباع التابعين في سائر العلوم الشرعية والأدبية، أمثال سعيد بن المسيب وسفيان الثوري، وسعيد بن جبير وغيرهم كثير وهو نتاج امرأة تعلمت وتربت في بيوت العلم والحلم والحكمة والخلق الرفيع ،كيف لا والأم منبع الحب السامي والحكمة الخالدة التي تعم أجيالا بكاملها، كيف لا والشاعر يقول :
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق ؛ فدور المرأة في تخليق الأسرة لا ينفك عن دورها في تخليق المجتمع لأن الأسرة هي أساس المجتمع وعماده؛ فمهامها خارج البيت في المجال الاجتماعي واسعة أيضا بفعل احتكاكها بأفراد المجتمع في مجالات متعددة وفي مرافق متنوعة، كل ذلك يمكنها من أن تمثل الخلق الحسن والقدوة المثلى ومشاركتها في أعمال البر والخير من خلال منابر متعددة وظيفية أو فردية أو جمعية ، فلا تجد قوما أبعد مدى في الضلال، ولا أقصر يداً عن الحقيقة، من أناس أجازوا لأنفسهم الحكم على الإسلام وليسوا منه في قليل ولا كثير، أولئك قوم من عامّة كُتاب الفرنج،إذا كتبوا عن النساء العربيات المسلمات زعموهنّ قعائد بيوت لا رأي يبدينه، ولا نصيب من الحرية يعتزن به، وتلك إحدى نزعات أهوائهم، تنكشف يوما بعد يوم عن ذلك الإيقاع المبتذل، والأسلوب المرذ ول ف؛ أمّا دليلهم. . . فلا دليل! .
إتبعنا