مقالات الكتاب

الهليكوبتر عندما ركبتها مرتين (2)

بقلم لواء دكتور/ سمير فرج متابعة. عادل شلبي

عرضتُ في مقال العدد السابق أنني ركبت مئات الرحلات الجوية بالطائرات، ولكن من أهمها رحلتان بالطائرة الهليكوبتر. وقد عرضتُ في المقال السابق الرحلة الأولى، عندما انفجر اللغم في سيارتي بالصحراء الغربية، فتم تخصيص طائرة هليكوبتر لنقلي إلى القاهرة لتلقي الإسعاف.

واليوم أعرض الرحلة الثانية في حياتي بالطائرات الهليكوبتر، عندما كنتُ في محافظة الأقصر لمدة سبع سنوات، وخلال تنفيذي للخطة الشاملة لتطوير الأقصر، والتي كان من أهم بنودها إعادة فتح طريق الكباش، وتحويل الأقصر إلى أكبر متحف مفتوح في العالم.

ولذلك، كان عليَّ أن أُزيل العوائق من المباني التي قام الأهالي ببنائها، والتي تعترض مشروع طريق الكباش. التي أقامها الأهالي على الأراضي المملوكة للدولة. ومن هنا، كان عليَّ في كل مرحلة أن أقوم بزيارة المنطقة التي سيتم فيها تنفيذ الإزالة.

وكان لا بد أن ألتقي بأهالي تلك المناطق قبل بدء حملات الإزالة، لأشرح لهم أسلوب التنفيذ، وكيفية صرف التعويضات. ورغم أن الأرض ملك للدولة وليست ملكًا لهم، فقد كنا نُوضح لهم البدائل المتاحة، ومن أهمها توفير مساكن جديدة يمكنهم الانتقال إليها بدلًا من التعويضات المالية، وللعلم كانت هذه المساكن عبارة عن شقق تمليك.

وكان يوم الجمعة، وذهبتُ للصلاة مع الأهالي حتى نتمكن من التباحث في الأمر بعد الصلاة. وذهبتُ منفردًا، إلا من سكرتيري الشخصي، لإثبات روح الأخوّة في الجلسة، وليس أن السلطة جاءت لفرض واقع معين. إذ كانت العادة أن يتحرك المحافظ ومعه “جوقة” من وكلاء المحافظة ومديريها والعاملين بها.

كان الترحيب حارًا، كعادات أهل الصعيد. وما أن فرغنا من الصلاة، حتى بدأنا نتحاور، لأشرح أهمية فتح طريق الكباش بالنسبة لمصر، وما لفتحه من فوائد ستعود على جميع أهالي الأقصر. كما استفضت في شرح أسلوب التعويضات الذي سنتبعه، إذ كان مقرَّرًا أن يتم تعويض الأهالي عن الأرض وعن المسكن، فضلًا عن نقلهم إلى مساكن جديدة، كانت قد جُهِّزت سلفًا كجزء من خطة التطوير، وقبل البدء في تنفيذ عمليات الإزالة.

بدأنا حوارنا بعد الانتهاء من صلاة الجمعة، حوالي الواحدة ظهرًا، وكان بالمسجد نحو مائة فرد، وهي سعته القصوى. فإذا بأعداد الأهالي تتزايد، فانتقلنا بمجلسنا إلى “الديوان”، وهو البيت الكبير في القرية، الذي يستخدمه جميع أهلها في مناسباتهم، أفراحًا كانت أو أحزانًا. وزادت الأعداد المشاركة في الحوار إلى نحو ألفي شخص.

هنا ازدادت سخونة النقاش: فهذا يرفض ترك منزله الذي وُلد وعاش فيه. وذاك يرفض ترك البيت الذي يحمل رائحة عرق أبويه وأجداده. وآخر يرفض الانتقال بعيدًا عن مقر عمله أو عن باقي أفراد أسرته. وهناك من يرفض قيمة التعويض أو أسلوبه. بينما صاح آخر: “هتهد بيوتنا ومش هتلاقي تحتها حاجة!”

تعالت الأصوات، وشاركت في الحوار العديد من النسوة، وللعلم، فإن للمرأة الصعيدية مكانة عالية بين أهل الصعيد، على غير ما يصور البعض، خاصة إذا كانت هذه المرأة هي الجدة أو “العمة” كما يطلقون عليها.

وجدت نفسي وحدي أصارع كل هذه الأصوات، والآراء والأفكار، التي أتفق مع بعضها، لكن المصلحة العامة تقتضي غير ذلك. ومرت ثلاث ساعات أخرى، حتى صارت الساعة الخامسة مساءً. وعندها لاحظ بعض كبار السن أن مظاهر التعب والإرهاق قد بدت عليّ، فاقترحوا استكمال الحوار في يوم آخر، خاصة أن أذان المغرب كان على وشك أن يُرفع، والديوان محجوز لمناسبات أخرى.

ركبت سيارتي والعرق يتصبب من جسدي. وما أن وصلت إلى استراحتي حتى شعرت بضيق شديد في التنفس. فاتصلت بأحد الأطباء في القاهرة طالبًا المشورة، فنصحني بالتوجه فورًا إلى المستشفى الدولي، وبقي معي على الهاتف حتى وصولي، ليتحدث إلى طبيب الاستقبال ويوجهه لسرعة إسعافي.

في تلك الأثناء، وصل أمر مرضي إلى المشير طنطاوي، فأمر بنقلي فورًا إلى القاهرة، وأرسل طائرة عسكرية لتنفيذ المهمة. وصلتُ إلى المستشفى في القاهرة مع بزوغ أول شعاع للفجر.

كانت الرحلة طويلة وثقيلة على نفسي. فبالرغم من أنني ركبت الطائرات الهليكوبتر مئات المرات في حياتي العسكرية، إلا أن لهذه المرة تحديدًا وقعًا خاصًا في ذاكرتي؛ حفرتها قوة صوت محركاتها ومروحاتها، التي استشعرت مدى إزعاجها لأول مرة في حياتي.

وصلت إلى مطار اللماظة العسكري، حيث عربت الإسعاف، تنقلني إلى مستشفى كوبري القبة العسكري.

دخلتُ غرفة العمليات مستسلمًا تمامًا، أغمضت عيني متوكلاً على الله. وخرجت منها حاملاً في جسدي ثلاث دعامات لشرايين القلب المختلفة، وحاصلًا بذلك على عضوية ما أسميه مازحًا: “نادي الدعامات”.

عرفتُ بعدها أن طبيبي هذا، الدكتور خالد، واحد من أمهر وأبرع جراحي القلب في القوات المسلحة.

عدت بعدها إلى الأقصر، واستكملت مهمتي في إعادة فتح طريق الكباش بطول 3 كيلومترات. لم يتبقَّ منه سوى 60 مترًا فقط، لتكتمل هذه التحفة الأثرية الفريدة، وتلتحم مع باقي أجزاء الأقصر، فتجعلها بحق أكبر متحف مفتوح في العالم… وبوابتي أنا إلى “نادي الدعامات”.


اكتشاف المزيد من

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading