
بين المصلحة الوطنية والتضامن القومي: قراءة في جدل حول غزة
بقلم: عبدالله معروف.
متابعة عادل شلبي
منذ اندلاع موجات التصعيد الأخيرة في غزة، لم تهدأ دوائر النقاش السياسي والإعلامي في العالم العربي. امتلأت الشاشات والمنتديات بآراء محللين وصحفيين يحاولون قراءة المشهد المعقد للقضية الفلسطينية، وهي القضية التي لم تفقد مركزيتها في وجدان الأمة العربية منذ النكبة عام 1948، رغم تغير الظروف والتحالفات الإقليمية والدولية. هذا الانشغال لا ينبع فقط من البعد الإنساني المتمثل في معاناة المدنيين تحت القصف والحصار، بل أيضاً من إدراك عميق بأن ما يجري في فلسطين يتقاطع مع الأمن القومي العربي، ويعيد طرح أسئلة قديمة حول دور الدول العربية، وحسابات القوة، وحدود التضامن، في مواجهة مشروع استيطاني مدعوم من قوى عالمية كبرى.
في هذا السياق المشتعل، جاء لقاء تلفزيوني جمع عدداً من الأسماء البارزة في التحليل السياسي والإعلامي. كان من بينهم صحفي مصري بارز يتولى رئاسة قسم الشؤون الدولية في إحدى الصحف القومية الكبرى، إلى جانب محلل سياسي جزائري مقيم في الغرب. أشار المحلل الجزائري إلى أن معظم الدول الغربية أظهرت تعاطفاً متزايداً مع القضية الفلسطينية بعد مشاهدة حجم الإبادة، معتبراً أن هذا التحول يعكس وعياً شعبياً بأن الصمت عن الجرائم اشتراك فيها.
الصحفي المصري المعروف بميله إلى التحليل الواقعي (Realpolitik)، ردّ على هذه الرؤية بنبرة ناقدة للاعتماد على المظاهرات كمؤشر على تغير الموقف الدولي، وطرح سؤالاً محورياً: أين الجيوش الأوروبية؟ وأين يقف حلف شمال الأطلسي؟ ثم أجاب بنفسه: مع إسرائيل. من هنا، أوضح أن حسابات القوة العسكرية هي التي تحدد مآلات الصراع، وليس الحراك الشعبي، مؤكداً أنه لا يرى أي حل لإدخال المساعدات إلى غزة إلا باستخدام القوة، ثم يوجه سؤاله للمحلل السياسي الجزائري: “هل لديك بديل آخر؟”.
استشهد الصحفي المصري بتصريحات سابقة لمسؤول فلسطيني بارز حول حسابات القوة، وأضاف قائلاً: “ما دخل مصر حتى تضربها إسرائيل؟”، لافتاً إلى أن حماية أرواح المصريين، بمن فيهم السائقون العاملون في المعابر، أولوية قصوى. وأضاف: “طول عمر الدم المصري غالٍ، وقد أريق داخل فلسطين وسيناء من أجل القضية الفلسطينية، لكن ليس من أجل حماس أو غزة”. وفي هذه اللحظة، تدخلت المذيعة مضيفة أن “دم مصر غالٍ، وكذلك الدم الفلسطيني”، محاولةً موازنة النقاش.
هذا الطرح يمكن قراءته في إطارين متوازيين؛ الأول هو البعد الأمني والسياسي، إذ يضع حياة المواطنين المصريين في صدارة الأولويات، متسقاً مع منطق السياسة الواقعية التي تحكم الدول عند اتخاذ قرارات تتعلق بالتدخل العسكري أو التعرض للمخاطر المباشرة. والثاني هو البعد القومي والإنساني، حيث قد يفسر بعض المستمعين مقارنة الدم المصري بالفلسطيني على أنها انتقاص من قيمة التضحية الفلسطينية أو تغافل عن البعد الإنساني والديني في القضية، وهنا تكمن حساسية الخطاب في بيئة عربية ترى في فلسطين قضية مركزية تتجاوز حدود السياسة إلى عمق الهوية والانتماء.
المعضلة ليست في تأكيد أولوية حماية الدم المصري، فهذا أمر بديهي ومشروع، بل في الصياغة التي قد تُفهم – عن قصد أو دون قصد – على أنها تقليل من شأن الدم الفلسطيني، خاصة في ظل تاريخ طويل من التضحيات المشتركة. ومصر، بحكم التاريخ والجغرافيا، كانت ولا تزال لاعباً محورياً في القضية الفلسطينية، ورفضها القاطع لسيناريو التهجير من غزة هو دليل على تمسكها بالهوية الفلسطينية وحماية الوجود الفلسطيني. ومن الممكن الدفاع عن الموقف المصري بصلابة، مع تجنب المقارنات التي قد تمنح انطباعاً سلبياً لدى الرأي العام العربي، فالخطاب السياسي حول فلسطين يحتاج إلى توازن بين لغة المصالح ولغة المبادئ، بحيث يظل داعماً للقضية دون أن يضعف من قيمتها الرمزية أو الإنسانية.
بهذا، يصبح الحوار أكثر قدرة على جمع المصلحة الوطنية مع التضامن القومي، ويبتعد عن الانقسام الذي قد ينشأ من اختلاف طرق التعبير.