
حربان تنهشان غزه…بقلم عبد الله معروف
متابعة عادل شلبي
في غزة لا توجد حرب واحدة. هناك حربان تنهشان الجسد والروح في آنٍ واحد. حرب تقتلنا بالقذائف والركام والدمار، وحرب أخرى تُشن من داخلنا، حرب من تجار الجوع، من تجار الدم، من أولئك الذين استبدلوا ضميرهم بحساباتهم البنكية، وأقاموا أسواقهم على جماجم الجائعين والمنكوبين.
منذ أكثر من تسعة أشهر، والموت لا يغيب عن أي زاوية. لا صوت يعلو فوق القصف، ولا رائحة تسبق رائحة الدم، ولا مشهد يُرى غير الأنقاض والبكاء. غزة تنزف، تُقصف، تُحاصر، تُجَوَّع، وتُباع. نعم، تُباع.
من ينجو من الغارات، يُحاصر بالجوع. ومن ينجو من الجوع، يُجلد بالأسعار. الناس تمشي حفاة، تتنقل بين الخيام، تحمل أطفالًا لا يعرفون طعم الحليب، ولا شكل لعبة، ولا دفء بيت. في غزة لا أحد يحلم بشيء، الناس تحلم فقط بلقمة، بشربة ماء، بأمان لليلة واحدة دون نيران أو دموع.
كيلو الطحين يباع بـ 35 دولارًا، قطعة بندورة بـ10 دولارات، حبة بصل بسعر علاج في بلد آخر. الغاز انقطع، الناس تطبخ على الحطب، لكن حتى الحطب لم يعد مجانيًا. يباع بأربعة دولارات للكيلو، والناس تجمع الأعواد من بين الركام أو تحرق الأثاث الباقي لتطبخ ما تبقى من علبة رز أو عدس. أمهات يغلين الماء لأطفالهن في قدور بلا شيء، فقط ليقنعوهم أن شيئًا يُطهى.
أما المساعدات، فهي تدخل وتُعرض أحيانًا أمام الكاميرات، لكن الحقيقة مختلفة. ما يصل إلى الناس لا يتجاوز 60% من المساعدات. أما الـ40% المتبقية، فتُسحب من القوافل وتُخفى، ويُعاد توزيعها إما لصالح السلطة، أو تذهب مباشرة لتُمنح لتجار يبيعونها لاحقًا بأسعار خيالية. بعضها يُخزن، بعضها يُهرب، بعضها يُستخدم لمكافأة المقربين، لا لإطعام الجياع. لا رقابة حقيقية، ولا عدالة في التوزيع، ولا ضمير يردع من يحوّل خبز الجائعين إلى وسيلة نفوذ وربح.
والناس تعرف. ترى. تحفظ التفاصيل. لكنها تصمت. لا خوفًا فقط من الجوع، بل من الرصاص. لأن من يعترض أو يرفع صوته، يُتهم بأنه خائن أو عميل، يُلاحق، يُسكت، يُشوَّه، وربما يُقتل. في غزة حتى الغضب لا يُغفر، وحتى الجوع لا يُشتكى منه، وحتى الصمت بات مكلفًا.
لكن الألم لا يقف هنا. حتى من يحاول النجاة من الخارج، من يرسل القليل مما يملك لعائلته المحاصرة، يُستنزف ويُستغل. إذا أردت أن ترسل 500 دولار لعائلتك في غزة، فإن ما يصلهم هو فقط 300. أما الـ200 المتبقية، فتذهب لمن يُسمى “محوِّل”، يخصمها كـ”عمولة تحويل” أو “أجرة خطر”. لا قوانين، لا رقابة، لا إنسانية. المال يُنهب قبل أن يصل لمن يحتاجه، وكأن العائلة التي تنتظره لا تحتضر من الجوع، وكأن المبلغ لا يُرسل لينقذ حياة طفل أو يشتري دواءً عاجلًا أو خيمة تسدّ الريح.
الناس لم تعد تبكي، لأن الدموع جفّت. الأطفال لا يبكون من الجوع، لأن أجسادهم لم تعد تملك طاقة للبكاء. الرجال ينهارون وهم عاجزون عن إطعام أسرهم، والنساء ينظرن في عيون أطفالهن بكسرة لا توصف. الصمت يسكن المخيمات، الصمت وحده يعلو على صوت الريح. صمت يشبه القبر، لكن القبر هنا مفتوح، والناس أحياء يمشون بداخله.
هذه ليست حربًا، هذا موت بطيء، قتل جماعي ممنهج، يتم برعاية الصمت، وتحت سمع وبصر العالم كله. نحن لا نُقتَل فقط، نحن نُهان، نُسرَق، نُباع، يُساوَم على حياتنا. من نجا من الغارات، وقع في شباك تجار الحصار. ومن هرب من القذائف، أُرهق بقسوة الأسعار. ومن حاول أن يساعد، صُودرت إنسانيته قبل أن يصل صوته.
من لم يقتله الاحتلال، قتله الجوع. ومن لم يقتله الجوع، قتله الاستغلال. ومن لم يقتله الاستغلال، قتله اليأس.
غزة تحتضر، لا ببطء، بل علنًا. تموت يومًا بعد يوم، شبرًا شبرًا، إنسانًا إنسانًا. وكل لحظة تمرّ دون تدخل، هي رصاصة في صدر طفل، وخنجر في خاصرة أم، ووصمة عار على جبين العالم.
غزة لا تطلب شيئًا مستحيلًا. لا تطلب غير الحياة. لا تطلب إلا أن تأكل وتشرب وتنام بلا خوف، أن لا تُعامل كقضية منسية، ولا تُترك فريسة للجوع والقصف والمستغلين.
لكن حتى هذا، يبدو كثيرًا.