متابعة/ عادل شلبى
تحدثت في مقالي الأسبوع الماضي عن بداية العلاقة التي جمعتني بالسيد “فرانشيسكو بندرين”، الذي كان يشغل منصب رئيس المركز التراث العالمي، التابع لمنظمة اليونسكو، والمسؤول عن جميع المناطق الأثرية في العالم، في الوقت الذي كنت فيه محافظاً للأقصر، وتحديداً فور البدء في تنفيذ خطة تحويل الأقصر إلى متحف عالمي مفتوح، وعن معركتي مع اليونسكو، ضمن ما خضت من معارك، لتنفيذ مشروع تطوير ساحة الكرنك، والتي انتهت بموافقة اليونسكو على خطة التطوير، والتي قرر بعدها، السيد بندرين، زيارة الأقصر للاطلاع على أعمال التطوير الجارية بها. وصل السيد بندرين إلى الأقصر، في الموعد المُتفق عليه، وتم عقد اجتماع بيننا، قمت خلاله بعرض خطة تطوير الأقصر، والتي كانت معنية، في المقام الأول، بالمشروعات الثقافية، والأثرية، التي يتم تنفيذها للحفاظ على المناطق الأثرية، بإزالة العشوائيات المحيطة بها، المؤثرة سلباً على مظهرها الحضاري، بما تسببه، في بعض الأحيان، في حجب الرؤية عنها، بل وقد تتسبب في تلف بعضها.
كما استعرضت معه ما تم تنفيذه، حتى حينه، من نقل المواطنين المقيمين فوق المقابر الأثرية بالبر الغربي في منطقة القرنة، ومشروع تطوير ساحة معبد الكرنك، وساحة معبد الأقصر، ومشروع إعادة فتح طريق الكباش. وحينها، لم يُعرب بندرين، فقط، عن شديد تقديره للمجهود المبذول للحفاظ على المناطق والمعالم الأثرية بالأقصر، للوصول بها إلى مكانتها المُستحقة، بل فوجئت بتعليقه، الذي تمنى فيه، أن يكون لمدينة فينيسيا الإيطالية، خطة مشابهة لخطة الأقصر، في تكاملها وشمولها، وهدفها في تنمية المدينة، والحفاظ على طابعها الأثري، معقباً أن العشوائيات قي بدأت في الزحف على المنطقة الأثرية، في فينيسيا، ممثلة خطراً جسيماً عليها، وهو ما يجب التصدي له للحفاظ عليها. وفي ثاني أيام زيارته، صحبت السيد بندرين في جولة تفقدية لمختلف المناطق الأثرية بالأقصر، والمشروعات الجاري تنفيذها؛ فقمنا بزيارة “قرية حسن فتحي”، التي صممها، وأقامها المعماري المصري الكبير، المهندس حسن فتحي، في نهاية الأربعينات من القرن الماضي، لنقل سكان “القرنة” إليها، والتي تعد واحدة من أهم معالم للأقصر، والتي لم تكن مُدرجة، ضمن قائمة المعالم الأثرية، نظراً لعدم مرور 100 عام، بعد، على إنشائها. إلا أن زيارة السيد بندرين، كانت فاتحة خير عليها، إذ تم الاتفاق على وضع القرية قائمة المعالم الأثرية في العالم، بل وتم وضعها تحت رعاية اليونسكو، وبتمويل من المنظمة، لأعمال تطويرها. يتميز المعماري حسن فتحي، بمنهج خاص، ومتفرد، يُطلق عليه “عمارة الفقراء”، لاعتماده في تصميماته على مواد البناء الأولية، مثل الطوب الطفلي، من طين المنطقة، وعدم استخدامه للحديد أو الأسمنت، وتبنيه، في تصميم الأسقف، لأسلوب القباب، التي تتميز بتدوير الهواء، لذا تجد المبان المتبعة للقباب تتمتع بالدفء في الشتاء، والبرودة في فصول الصيف، فضلاً عن اعتماده على فتحات الإضاءة في تلك القباب، لتدخل منها أشعة الشمس، طوال النهار، كمصدر للضوء، مما يقلل من تكاليف البناء، واستخدام تلك المباني. والحقيقة إنك لو اطلعت على مراجع العمارة العالمية، لوجدت أن مصر تحتل جزءاً كبيراً منها، لتاريخها في ذلك الفن، بدءاً من تفرد المصريين القدماء في بناء الأهرامات، أو أول معبد في العالم، وهو معبد الكرنك، بأعمدته الرائعة، وصولاً إلى العصر الحديث الذي سُجلت “عمارة الفقراء”، باسم حسن فتحي، في مراجعه. وفور مغادرة السيد بندرين للأقصر، بدأنا الإجراءات الرسمية، فصدر قرار رئيس مجلس الوزراء بتحويلها إلى “محمية تراثية”، ليتم بعد ذلك ضمها إلى قائمة التراث العالمي.
وأعقب ذلك قيام اليونسكو، بالتعاون مع الحكومة المصرية، بعقد مؤتمر دولي، كبير، في الثاني من أكتوبر، من عام 2010، شارك فيه أكثر من أربعين خبيراً دولياً، في مجال العمارة، من مختلف أنحاء العالم، واستمرت فعالياته لمدة يومين، تم خلالها عرض النتائج المبدئية لأعمال المسح الميداني، الذي أجرته منظمة اليونسكو، ليتضمن الجوانب المعمارية، والاجتماعية للقرية ووضع استراتيجية فعالة لحماية قرية حسن فتحي، وتطويرها بإنشاء مركزاً دولياً للصناعات الحرفية، والبيئية، فيها، على أن تقوم منظمة اليونسكو بالإشراف عليه، وكانت المفاجأة في ذلك المؤشر، وجود أكثر من عشر جامعات عالمية لديها كرسي لعمارة حسن فتحي.
وبعد المؤتمر، تم وضع الخطة التنفيذية لمشروع تطوير قرية حسن فتحي، متضمنة البدء بمنزل حسن فتحي نفسه، الذي يجمع في تصميمه بين كافة الأشكال المعمارية المستخدمة في القرية، مثل الأقبية والقباب والمشربية والأبواب الخشبية العتيقة، بعد أن وصلت حالته للتدهور، وظهرت التصدعات في كل أركانه، نظراً لإهماله لسنوات طويلة. وشملت الخطة ترميم المسجد، الجامع، في تصميمه، ما بين العمارة الإسلامية والنوبية، والمتميز بعلو جدرانه، وضخامة أعمدته، وأقبيته، واتساع ممراته. أما بالنسبة للخان، فتقرر تطويره لتعليم الحرف اليدوية، لأبناء القرية، وبيع منتجاتها للسائحين.
وقد قامت اليونسكو، بالفعل، بعد المؤتمر، بتوفير التمويل اللازم لتنفيذ المرحلة الأولى، من المشروع، وتم تشكيل لجنة داخل مصر، بالتعاون مع وزارة الثقافة، لمتابعة التنفيذ، ضمت في عضويتها، أحد تلاميذ المهندس حسن فتحي، إلا أن ثورة 2011، عطلت مسيرة الخطة، وظل المشروع متعثرا لعدة سنوات، حتى علمت باستئناف العمل به، في الفترة الماضية، وهو ما كان سبباً لسعادتي البالغة، لتمنياتي بأن تلقى تلك القرية، ومهندسها العبقري “حسن فتحي”، ما يستحقونه من اهتمام وتقدير داخل مصر، مثلما يلقون من العالم كله
إتبعنا